جدال أحذية
مكتب للزواج
القرين

مكتب للزواج

مكتب زوَّاج

خرج من بيته وهو في أوج الغضب والسّخط ، فابنه الأكبر يحتاج إلى حقيبة جديدة ؛ ومن المعيب أن يرى مع زملائه كلّ جديد ، وثيابهم زاهية أنيقة ، وهو ما يزال على قديمه من الملابس ولوازم المدرسة ، وابنه الأوسط لن يذهب إلى النادي ، فآباء زملائه في الفريق قد جهّزوا أولادهم بأحسن الأحذية والثِّياب الرَّياضية ، وسيغادر الفريق ويترك التَّدريب إذا لم يكن كلداته ، والصَّغير يحتاج إلى دواء لمرضه المزمن ، ومشافي الدَّولة تخلَّت عن واجبها ، وصار العبء على كتفي حائل الَّذي فاض به وخرج عن طوره عندما طلبت زوجته أن يحضر هدية عيد ميلاد لابنة جارتها ، فكانت القشّة الَّتي قصمت ظهر البعير .
صرخ وأرغى وأزبد وأرعد ، وكسر الكأس الَّتي وصلت إليها يده ، وأغلق الباب بقوة حتَّى سُمع له صوت في كافة أنحاء الحيّ كأنه دويّ قنبلة .
ماذا سيفعل هذا الموظَّف المسكين ! ومن أين سيغطّي نفقاتِ البيت والأولاد ، وطلبات الزَّوجة الَّتي تكاد لا تنتهي !
شاهده جاره أبو غانم فبادر بسؤاله : خير خير يا جار ؟ لم أنت في هذه الحالة الَّتي تُشْمت العدو ولاتسرّ صديقاً ؟!
آاااااه يا جار ؛ ماذا أقول لك ! وبمَ أخبرك ! الشَّكوى لغير الله مذلّة .
نحن أهل يا حائل ، وقد أوصى رسولنا عليه صلوات الله وسلامه بسابع جار ، وأنت تسكن بجواري منذ زمن طويل . أخبرني عمّا دهاك وجعل أيامك همّاً وغمّاً . ضيق ذات اليد ، وكثرة المصاريف والطَّلبات ؟ وأنت سيَّد العارفين بقدراتي المحدودة ، وبما أملكه من مال ، الله وكيلك ( إني أشهق ولا ألحق ) .
هل أدلّك على شيء ينتشلك ممَّا أنت فيه ؟
(يدي في زنّارك) إذا كان عندك حلّ الحقني به قبل أن أموت كمداً .
الحلُّ بسيط يا جار ؛ فلْتعمل معي بعد أن تفرغ من وظيفتك .
فكما ترى : قد فتح الله عليَّ من واسع نعمه ، وأستطيع أن أشتري وأعطي عائلتي ما تحتاجه دون أيّ خوف من المستقبل أو اعتبار لإنفاق كثير أو قليل من الأموال ، فقد فتحت مكتب تزويج ، وأعمل بما يرضي الله ، وأتقاضى أجراً عن كل تعارف وزواج ، بجهد بسيط أكسب أموالاً تكفيني سؤال النَّاس ، وتجعلني سعيداً خالياً من الهموم ومصاعب الدُّنيا .
ألهذه الدَّرجة العمل مربحٌ ؟
قليل من الجهد والكلام وكثير من المال .
من الآن اعتبرني أصبحت موظَّفاً في مكتبك ، وسأزوِّج أكثر أهل المدينة ؛ فأنا موهوب بالقيل والقال وكثرة الكلام ، وسترى منّي العجب العجاب .
الكلام المنمّق رأس مالنا وتجارتنا الرَّائجة ، وكلما أسهبت فيه كان النَّجاح من نصيبنا .
غداً بعد العصر سأكون مزروعاً في مكتبك يا جاري الغالي .
أنتظرك على بركة الله .
عاد حائل إلى بيته بوجه غير الذي خرج به .
لمَ أنت سعيد سألته زوجته ؟ قد حُلَّت مشاكلنا ، ومَنَّ الله علينا باليسر بعد العسر .
أخبرني بسرعة عمّا حصل معك ، (فقد بدأ الفأر يلعب بعبي) !
سأعمل مع جارنا أبي راغب وأنهي سنوات الفقر وقلة الرّزق .
أجننت يا رجل ! أبو راغب يعمل بالزَّواج والطَّلاق ، والله ناقصني ضرّة !
لا ضرة ولا هرّة ، الله يرضي عنك ، ابتعدي عنّي ولا تحاولي تعكير مزاجي .
حسنٌ ،  يا حائل ، لكن والله العظيم إن زاغت عيناك على إحدى النَّساء لأتركنّ لك البيت إلى غير رجعة .
أنهى عمله الصَّباحي ، واتّجه إلى مكتب أبي راغب وكلّه أمل في بداية طيبة بعد سنوات الشَّقاء والتعاسة .
كيف حالك يا معلمي الجديد ؟
الحمد لله ، تفضّل ردَّ أبو راغب وتابع : سيأتي خاطب بعد قليل ، تابع ما سأقوله وتعلَّم .
لم يكد أبو راغب يفرغ من كلامه حتَّى دخل رجل قارب الستّين ، فاستقبله استقبال الفاتحين ، وأحضر له عصيراً بارداً وبادره بالحديث قائلاً : ما شاء الله عليك يا أبا حليم ؛ عندما علمت كم عمرك لم أصدّق ، يبدو عليك أصغر بعشر سنين على الأقل !
ردّ الرَّجل بابتسامة تفاؤل : المهمّ أنَّك وجدت لي بنت الحلال .
طبعاً أتخالنا نلعب ! لقد انتقيت لك فتاة عزباء في الخامسة والأربعين من العمر ، ذات أخلاق وحسب ونسب ، تخاف الله ولا ترغب إلَّا في السَّتر .
هذا هو عز طلبي ؛ فأنا أعيش وحيداً ، وأريد أن أكمل ما بقي لي من العمر دون وجع رأس مع زوجة لسانها سليط يجعل خريف عمري بلاءً وشتاء قارساً .
غداً مساء سأجمعك مع عروس ( لقطة) فلا تقلق .
وما إن خرج أبو حليم حتَّى دخلت الخطَّابة ، وهي امرأة عجوز قائلة : وجدتُ طلب أبي حليم كما أخبرتك ، فأنا لا أنام الليل حتَّى أتمّ عملي .
هذا جيد يا أمَّ سالم .
عمرها كما طلبت في ، وهي مطلّقة ، وأرادت المتابعة لولا أن وقع نظرها على حائل فتوقّفت عن الكلام .
فسارع أبو غانم بالقول : استمرّي فهذا حائل شريكنا الجديد .
هزّت رأسها وتابعت : ولكن حتَّى أخلي ذمتي ، المرأة عدوانيّة متسلّطة وقحة ولسانها لايرحم … وقد طلّقها زوجها لأنها ضربته بطنجرة المحشي بعد أن كالت له سيلاً من الشتائم وجعلت أضحكوكة الجيران .
لا عليك ، المهمّ أن نقبض المال ؛ وهما بعد الزَّواج سيكتشفان بعضهما البعض ، بصراحة فخّار يكسر بعضه .
إذا كان الأمر هكذا فغداً مساء سأحضر المرأة .
على بركة الله ، ولكن لا تذكري مواصفاتها أمام أبي حليم .
ما إن خرجت المرأة حتَّى قال حائل : ولكن الظَّاهر على أبي حليم أنَّه رجل طيب ، وقد أعطاك مواصفات ما يريد من النِّساء .
(حط بالخرج) كلهنَّ متشابهات ، وإذا أردنا أن نعطي النّاس ما ترغب علينا أن نفصل لهم (كتلوك) ، المهمّ أن تتعلَّم بسرعة ، فالعمل يحتاج مهارة الإقناع وزلاقة اللسان .
مساء الغد التقى الجمع في مكتب أبي غانم .
وبعد دقائق دخلت امرأة ذات هيئة جميلة تمشي بغنج ودلال ، انشرح قلب أبي حليم برؤيتها ، وانفرجت أساريره ، وقال في نفسه : والله هذه المرأة هي ضالّتي ، وهي من ستعيد الحياة لحقلي الَّذي أوشك على التصحّر .
مرحباً يا قوم قالت المرأة . فتسارعت دقّات قلب أبي حليم ، حتّى بدا كأنه سيخرج من صدره ليرقص على معزوفة سلامها .
قال بصوت خفيض لأبي غانم : سأعطيك أجراً ضعف ما اتَّفقنا عليه ، إذا تمَّت الصَّفقة .
ابتسم أبو غانم قائلاً : لن تخرج إلَّا بكامل الرضى ، فنحن قوم أعزّنا الله بالصّدق والوفاء والاخلاص .
جلست المرأة وأبو حليم يحدِّق فيها وكأنَّه لم يرَ جنس حواء من قبل .
قالت الخطَّابة العجوز هذه بضاعتنا ياسيِّد أبا حليم ، وهي من أطيب النَّاس وأرقاهم ، ستسترجع لك شبابك المفقود ، وتعوّضك عن سنين الوحشة ، وتجعلك أسعد الرجال ، فلك الخيار .
قد سمعت عن طيب خلقها ، وهاأنذا أشاهد حسنها وجاذبيّتها ، ولا أطلب من ربِّي أكثر من ذلك .
تبسَّمت المرأة عندما سمعت كلام أبي حليم إذ كاد يقع مغشيِّاً عليه .
لم يعجب هذا الكذب والخداع حائلاً ؛ فقال للمرأة : ما أخبار طنجرة المحشي ؟
تفاجأ الحاضرون بهذا السُّؤال ، وتساءل أبو حليم في نفسه عن انفلات هذا السُّؤال الَّذي لم يكن في محله .
انبرت المرأة وقد تغيَّرت ملامح وجهها قائلةً : من هذا الرَّجل ؟
قال أبو غانم بصوت مرتجف خوفاً من ضياع الصَّفقة : إنَّه موظفنا الجديد .
فتابعت المرأة وقد علا صوتها واختفى جمالها وأنوثتها ورقتها : أيها الوقح مالك وللمحشي ! أتريد أن أفتح رأسك كما فتحته لطليقي الحقير الأحمق ؟ أم تريد أن أدخل رجل هذا الكرسي برأسك وأجعله شطرين !
ياللهول ! قال أبو حليم وأردف : أنا في مكتب زواج أم في حلبة مصارعة ! كفانا الله شرّ هذه الزِّيجة ، فما مضى من العمر أكثر ممَّا بقي .
وترك الجلسة فارّاً بجلده قبل أن يقع المحظور .
تابعت المرأة : يالكم من أوغاد ! أقسم بالله لن أتعامل معكم مرَّة أخرى ، تفوووووووو عليكم وعلى مكتبكم ، وخرجت بعد أن صفقت الباب بقوة فكادت تكسره .
لماذا فعلت هذا سأل أبو غانم حائلاً ؟
أتظنُّ أنّي أرضى أن أغمس لقمتي بمال الحرام ، أو آكل من الإيقاع بالناس وتعاستهم ! حاشى لله أن أكون جسراً يعبر عليه أمثالك من الجشعين الكاذبين ، أنْ أقتات مع أسرتي على الخبز اليابس طيلة حياتنا أحبُّ إليَّ من الرفاهية على حساب شقاء الآخرين . وغادر المكان غير آسف على مال ضاع ، كان سيجنيه من خراب البيوت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

ذات صلة

الأصل المجهول

الأصل-المجهول إنها كارثة أهل سوريا ومصيبتهم. عائلة أتت من المجهول لتجعل حياتهم جحيماً. لم تكتفِ عائلة الأسد بسرقة أموال البلاد

تابع القراءة »