جدال أحذية……
يا مسعود، صاح رئيس العسس.
أجابه الحاجب: أمرك يا سيدي.
يا مسعود أشعر أن هذا الحذاء يضايق قدميَّ عليك أن تأخذه إلى الحذَّاء ليصلّحه. ولكن انتبه فلا أريد أن يُغير من شكله الخارجي فهو لا يحتاج إلَّا تصليحاً بسيطاً وبعض من الرُّتوش القليلة، فمن الظلم ألَّا أجعل قدميَْ في راحة تامة وأنا من أتعب على حماية البلد وأمنها وأسهر على حاجات البشر وحتَّى الحجر.
كلامك حقُّ يا مولاي فأنتم من المخلصين لتراب الوطن وسيده، كما أنَّكم تُجهدون أنفسكم ليل نهار وتُتابعون شؤون الرَّعية حفظكم الله ورعاكم وجعلكم ذخراً لهذا البلد وهذه الأمة،
وأضاف في نفسه: غير صحيح أيَّها المرتشي الظَّالم الآكل حقوق النَّاس، إنك أسوأ من سار على الأرض وأحقر من ولدت الأمهات، ولكن الزَّمن والظَّرف الأعوج من وكلاك على رقاب وأمور النَّاس.
ما بك أيَّها الغبي مسعود، لمْ خرست وكأن الطَّير على رأسك الأبله.
خذ الحذاء بسرعة كما أمرناك واِجعله صالحاً ومريحاً للسير، وإلَّا -والله العظيم -لأجعلنَّ منك ومن مصلح الأحذية عبرة أمام النَّاس لكلِّ من طوعت له نفسه عصيان أمري.
أمرك مطاع يا مولاي.
حمل مسعود الحذاء وخرج مسرعاً إلى دكان الحذَّاء.
السَّلام عليكم أيَّها العمُّ الطَّيب.
وعليكم السَّلام ورحمة الله تفضل يا ولدي ماذا عندك.
هذا الحذاء لسيِّدي رئيس العسس وفيه مشكلة صغيرة، أرجو منك تصليحه والاِهتمام الشَّديد به، لأنَّنا كما تعرف نريد أن نجعل ولاة أمورنا في غاية الرَّاحة، ونحاول دائماً أن نجعل أعناقنا جسراً لهم حتَّى لا تمش أقدامهم الأرض فيشعروا بقليل من التَّعب، فنحن يا عمّ لمْ نخلق إلَّا لنكون مطيَّة لأسيادنا وهكذا هي الدُّنيا فريق في النعيم وفريق في الجحيم.
قال الحذَّاء الدُّنيا لمن يطلبها والآخرة لمن يعمل لها وما عند الله خير وأبقى، وإنِّي أرى الضِّيق قد بدأ يلتهم روحك، فاصبر على هذا البلاء وما صبرك إلَّا بالله، ضعه يا ولدي على هذا الرَّف وغداً -إن شاء الله-سيكون جاهزاً.
شكره مسعود راجعاً إلى قصره ليلتقط رزقه ويتابع خدمة سيِّده، فاللُّقمة مغموسة بالدَّم كما كان يقول لزوجته دائماً.
بعد أن وُضع حذاء رئيس العسس على الرَّف بجانب الأحذية الأخرى أغلق الرَّجل دكانه وذهب إلى بيته بعد عمل يوم شاق.
ساد الصَّمت على المكان فأصبح كقبر لا حياة. تململ حذاء رئيس العسس متأفِّفاً قائلاً: هيه هيه أيَّها الحذاء الحقير البالي اِبتعد عني لمْ أنت ملاصق لي!!! ألَّا تعرف أن الدُّنيا مقامات ومستويات؟؟
ما بك أيَّها المتكبر المتعجرف الأحمق؟؟ أنت من أتيت متأخراً وحشرك الرَّجل بجانبنا، ولولا العيب لبصقت بوجهك الكالح فأنا منذ رأيتك لم أشعر بالاطمئنان لك أجابه الحذاء الآخر.
أيَّها الوضيع ألَّا تعرف من أنا؟؟
كلنا أولاد أحذية ومن ستكون سوى حذاء تُنتعل؟؟
أيَّها الجاهل المختل، أنا حذاء صاحب العسس، الَّذي عندما تُسمع خطواته تفرُّ منه الأنس والجن، فتأدب معي قبل أن أقطِّع جلدك إلى أشلاء وأجعلك عبرة لمن اعتبر.
ردَّ حذاء على الرَّف المقابل أرجوكم أن تهدَّؤوا أيُّها الإخوة، فنحن معشر الأحذية لم نخلق إلَّا لنُنْتَعلَ ويضرب فوق رأسنا صباح مساء، فلا داعي للتكبر على بعضنا فما نحن إلَّا خدم لأسيادنا.
تكلَّمْ عن نفسك أيُّها الحذاء السَّاقط فأنا لا يلبسني إلَّا الأسياد أما أنتم أيَّها المساكين فكلّ من هبَّ ودبَّ يضعكم في قدميه ويطأ كرامتكم ويستعملكم بكلِّ اٍحتقار وغطرسة، أما أنا فهناك من يهتم بي بعد أن يخلعني سيِّدي، وهناك من ينظفني ويهتم بجمال جلدي ويضعني في خزانة مزخرفة، حتَّى إن سيِّدي لا يستخدمني إلَّا بأوقات معينة وقليلة فلي إخوةٌ كثُرٌ يصطفون بجانبي في خزانة سيِّدي ، أما أنتم أيَّها المساكين فأصحابكم يركبون عليكم في كلِّ وقت، وقد يعيرونكم لأولادهم فلا ترتاحون إلَّا في المساء المتأخر وليس لكم من يلتفت إليكم أو يعتني بكم، فهم يرمونكم أمام باب البيت ليستعملكم كلّ قريب وغريب فلا قيمة لكم ولا وزن.
ردَّ حذاء آخر قد علاه والطِّين وحللته الأوساخ ، يا شباب في الواقع إن علينا جميعاً أن نُقدِّر الوضع ونعرف أقدار الأحذية، فأنا مثلاً صاحبي يعمل في الحقل ويكد طيلة اليوم وأكون ملازماً له، ينتقل بي من بركة ماء إلى أرض طينية ثمَّ إلى أرض جافة، ويلبسني سنوات وسنوات ويصلحني مراراً وتكراراً ويصلح ما اهترأ من جلدي حتَّى أصبحت لا أعرف نفسي لو نظرت إلى المرآة، فهل من المنطقي أن أقارن نفسي بسيِّدي حذاء صاحب العسس!! فعلاً يا أخوة وليسامحني سيِّدي الحذاء إذا وصفته بالأخ فهذا من شدَّة الاحترام لمقامه، فالأحذية مقامات ولكلِّ مقام مقال.
اِخرس أيَّها الغبي الذليل ففي الواقع أنَّ أمثالك من المتخلفين الجهلاء هم من جعلوا هؤلاء المتعالين يتكبرون على من سواهم قال له حذاء جالس عند مدخل الدُّكان.
ردَّ عليها حذاء بدا لولد صغير أرجوكم يا أعمامي لا تتقاتلوا فتكفوني ممَّا أراه وما أسمعه كلّ يوم من إهانات صادرة عن حذاء والدي صاحبي الصَّغير.
قام حذاء لرجل كبير في السِّن قائلاً: يا شباب أنا لم يبقَ لي في هذه الحياة إلَّا القليل من العيش وسأقولها كلمة قد تنفعني في آخرتي، نحن إن كبرنا وصغرنا ومشينا ووقفنا ووضعنا في خزانة مزركشة أو في صندوق خشبي مهترئ فالنَّتيجة واحدة، فنحن لم نصنع إلَّا لنُلبَس ولا يهمنا من يلبسنا إن كان غنياً أو فقيراً أو مسؤولاً أم سائلاً، فنحن نمسح الأرض جيئة وذهاباً ونتلوث بمياه قد تكون قذرة وقد تكون نجسة، فعلينا ألَّا نعلو على بعضنا ونتكبر ونتعجرف ففي النِّهاية نحن أحذية.
أنت خرف أيَّها الحذاء فأنت كبير بالسِّن صغير بالعقل، فعلى أغلب الظَّن أنَّك لم تُرتدى إلَّا في قدم أحمق خرف مثلك، فأنا حذاء السيِّد ولن أتنازل عن مقامي ولن أنزل إلى مصافكم أيَّها الحثالة الرُّعاع، وعندما يلبسني سيِّدي ويتبختر بي سأمر بجانبكم وأمد لكم لساني وقد أبول عليكم وأتفل في وجوهكم الكالحة كألسنتكم، فأنتم لا تستحقون أياً من التَّقدير أو الاحترام، فالتَّقدير خلق لمثلي بينما لم تخلقوا أنتم إلَّا للمذلة وقلة الاِهتمام، وعار عليّ أن أتابع الحديث مع أمثالكم وكمْ أنا حزين لأنِّي جُمعت وإياكم في مكان واحد وكلي أمل أن تبزغ الشَّمس ويأتي الخادم الحقير مسعود ليردني إلى مالكي العظيم بعد أن يصلحني الحذَّاء، والآن لا أريد الاِستمرار في مجادلتكم فلكم مستوى ولي مستوى ولن أتنازل بالتكلم معكم مرَّة أخرى.
رجع الصَّمت والسُّكون فتسيدا الموقف.
صباحاً فُتح الدُّكان كالعادة، وعندما انتصف النَّهار جاء مسعود إلى الحذَّاء الَّذي أخبره أنَّ الحذاء مهترئ من الأسفل ولن يستطيع إصلاحه بشكل جيد، ومن المستحسن أن يخبر صاحب العسس بهذا الكلام، ودفع إليه الحذاء فأخذه راجعاً إلى سيِّده.
ما حصل معك يا مسعود قال صاحب العسس.
والله يا سيِّدي هذا الحذاء لا يُجدي معه تصليح ومن المعيب أن تلبسه قدما سعادتكم، وأرى أنَّه من الأفضل أن تغيروه فقد يتمزق وأنتم تسيرون في وسط الطَّريق ويتخذها الأعداء ذريعة للمساس بالوطن وأمنه.
صدقت أيَّها المخلص مسعود ولقاء إخلاصك سأعطيك هذا الحذاء ليكون ملكك.
ماذا سيلبسني هذا الخادم الأجير بعد أن كنت ملبوس الأسياد!! يا وجع رأسي ويا ذلي بعد عزي ويا شماتة الأعداء والمغرضين بي، خير لي الموت من أن أُلبس بقدمي هذا الخادم الوضيع، ولو تجرأت على الاِنتحار لفعلت.
حمل مسعود الحذاء ورجع إلى دكان الحذَّاء طالباً منه ترقيعه فقد أصبح ملكه.
وضعه الحذَّاء على الرَّف ليصلحه في الغد، وما إن أقفل باب دكانه حتَّى علت قهقهات كلّ الأحذية الَّتي كانت على رفوفه.