جدال أحذية
مكتب للزواج
القرين

المبدع

ما السَّبب الرَّئيس لعدم شهرتي ؟ قال الشَّاعر لصديقه المعجب بأشعاره .
المعضلة تكمن فيك كشخص ، ولا علاقة لشعرك بها ؛ فأنت من المميّزين بفنّ الشعر .
كيف ترى أنَّ المشكلة منّي لامن شعري ؟ قسماً بالله لم أترك دار نشر ، ولم أدع مسؤولاً عرفته أو سمعت به إلَّا زرته ، وما جعلني أشكّ أنّ واء الأكمة ما وراءها أنّهم جميعاً يَعِدونني خيراً ، وأنهم سيسعون بالعمل على تقديمي للجمهور ، وإعطائي الدَّفع المعنوي وحتَّى المادي ، وبمجرّد خروجي من مكاتبهم أوقن أنّ الموضوع قد انتهى ، وأن لقائي وطلبي قد دخلا في درج لا قرار له ، ولكنّي أُسرّك القول : إنّ أخا زوجتي هيّأ لي لقاء متلفزاً بعد ثلاثة أيام وأريد منك النُّصح .
سأشرح لك ما أنت غافل عنه : في عصرنا الحالي لم يعد للأفكار وزن ولا للإبداعات حيّز ، إنّما – يا صديقي العزيز – القول الفصل في الإعلام وما يقدِّمه ، وما يروّجه عبر شاشات التّلفاز ومواقع التَّواصل الاجتماعي ، وهذا ما يتطلّب من شخصيَّة المبدع أن تكون جذّابة تستطيع شدَّ المشاهد والقارئ .
لم أفهم قصدك ؟
طبعاً لم ولن تفهم ما دام عقلك مغلقاً ، ولو كنت من هؤلاء الشُّعراء البسطاء الَّذين يقفزون على الحبلين لعرفت مرادي ، يا صديقي عليك التصرُّف كما يتصرف هؤلاء.
فمثلاً أنت لا تدخن السِّيجار ولا حتَّى السِّيجارة ، ولا تضع ربطة عنق ، ولا تمشي بكبرياء وزهو ، ولا تخاطب النَّاس بكلمات جزلة عربية لا يفهم معانيها معظم الاختصاصيين ، فأنت بسيط في ممشاك وفي لقياك ، وحتَّى في جلوسك في مقهى الحيّ ، فكلّ من هبَّ ودبَّ تحدَّثه بتواضع وابتسام ، وتمنحه شهد الكلام ؛ فيستصغرون شأنك ولا يضعونك في مصافّ الشُّعراء ، وأحياناً أجد بعضاً ممَّن تُلقي عليهم أشعارك يتغامزون ويتلامزون وقهقهات السُّخرية ملء أشداقهم ، وأنت غارق في إطراب هؤلاء الجهلة !
لم أنتبه إلى هؤلاء الشَّرازم من القوم ، ولو علمت ما يفعلون لبصقت في وجوههم وتبوّلت عليهم أيضاً .
البارحة – يا شاعرنا – شاهدت لقاءً في غاية الرَّوعة والجمال وقد أعجبني أيّما إعجاب .
وماذا شاهدت يا صديقي الطَّيب؟
القناة العاشرة كانت مستضيفة الشَّاعر رابحاً ، هل تعرفه؟
أعرفه ؛ ولكنّي لا أحبُّ شعره ولا أرى فيه أيّة موهبة .
العبرة ليست بمن تحبّ أو ما يعجبك ، بل بموقف الجمهور منه ، فهو مشهور على امتداد الوطن ، وله من القارئين ما لا يحصى ، ودواوينه تملأ المكتبات .
كلامك حقّ ، ولكنّي قرأت قصيدته الأخيرة الَّتي كان مطلعها : إن أحببتني أو لم تحبني ، فما رأيت منك إلَّا الجفاء . فما وجدت فيها إلَّا السّفسطة والكلام المبتذل .
هذه القصيدة مفخرة للشعر العربي ؛ لو أنك تحدَّثت عن أخرى لكان لنا تقييم آخر أمّا هذه فسنام الشعر .
المهمّ دعنا منه فلسنا بصدد تقييم رابحٍ ، إنّما أريد حلّاً وتغييراً لوضعي البائس .
أنت دائماً تخرجني عن زبدة الحديث ، كنت أريد توجيه ملاحظاتي عن شكل اللقاء ، فإذا بك تأخذني إلى الشَّاعر ومستواه في النَّظم ، قد رأيت البارحة رباحاً ممسكاً بين إصبعيه السِّيجار الكوبي الفاخر ، وكانت آلات التَّصوير تتتبّع حركاته ، وكيف يسحب النّفس ثمَّ يطلقه في الهواء مشكلاً غيمة صغيرة ، بطريقة في منتهى العظمة والكبرياء ! حقيقة أنا لم أتابع ماألقاه الشَّاعر بقدر ما تابعت حركاته ، وما ينتج عن سيجارته من أشكال متعددة ؛  يا أخي ، هكذا هم الشَّعراء دون سيجاراتهم لا يساوون الحبر الَّذي يكتبون به ، حتَّى إن الإعلام يدقّق في كلّ لقاء على هذه اللقطة الجميلة أكثر ممَّا يدقّق على الضَّيف .
برأيك إن أنا تدرّبت على امتصاص السِّيجارة ، وعقدت ربطة عنق أنيقة وعملت بما أوصيتني به ، فهل سيكون لي شأن في المستقبل ؟
اسمع من أخيك المجرّب الخبير ، ولن تخسر شيئاً ، وعندما تصبح علماً على رأسه نار ، لا تنسني ، وتذكَّر أن أوَّل خطوات المجد الَّتي ستصعد إليها كانت بإرشادٍ منّي وبمساعدتي أنا .
قسماً بالله إنْ صرت مشهوراً لأعطينَّك هدية يحلم بها الملوك ، فأنت أصدق صديق وأخ ، ولكن بمَ تنصحني أيضاً ؟
يا أخي ، قد أخبرتك بما يفكر به النَّاس ، فلا تكن سلبيّاً بل واثقاً من قدراتك ، وافعل ما يطلبه الجمهور ، تعلَّم تدخين السَّجاير بعظمة ، واشترِ لنفسك ثياباً مناسبة وربطة عنق ، وسترى كيف سيتغيَّر تقييمك وقيمتك آلاف الدَّرجات .
هل تنصحني بنوع محدّد لأبدأ تدخينه؟
إنَّه السِّيجار الكوبي الفاخر ؛ من يضعه بين شفتيه يصبح من علية القوم ، ويشار إليه بالبنان ، وستكون من أشهر الشُّعراء في وطننا الحبيب ، هل لك أن تسمعني آخر أشعارك ؟
طبعاً ؛ أتظنّني سأبخل على أعزّ صديق لي ! استمعْ واستمتعْ وتغنَّ وتلذّذْ ، ثمَّ أعطني رأيك ، وإذا أردتَ أن تنتقد أو تنقد فهذا يشرّفني ، أتريد أن تسمع شعراً في الغزل أم الحرب أم السّلم ؟
في الغزل يا صاحبي ، الحرب قد قرَّحت قلوبنا .
حسنٌ ، اسمع : ذات العينين الواسعتين ، أحببتك منذ أن رأيت طرف ثوبك .
الله ما هذا الكلام ! إنَّه السّحر الحلال . وما هذا الشِّعر الجريئ الَّذي لم يتطرّق إليه أحد الشُّعراء من قبل !
أعجبك مطلع القصيدة يا صديقي ؟
واضحة من أوَّل بيت فيها ، وأؤكد لك أنك على الطّريق الصَّحيح ، وأنَّ ما تفعله هو عين الصَّواب .
أكمل قصيدته العصماء الَّتي لاتتقيّد بلغة أو ميزان ، وصديقه الجاهل يتغنّى بما سمعه من ترّهات وسفاسف .
نام ليلته على أمل الغد الذي سيقطف فيه النُّجوم ، ويصعد إلى القمر ليراه كلّ من سار على  المعمورة .
أوَّل ما بزغ الفجر انتظر المتجر القريب ليفتح وأسرع مشترياً ما أوصاه به صاحبه .
خبّأه في جيبه فهو يخجل أن يشربه في الشَّارع ، ولا يعرف كيف سيدخّنه عند اللقاء المتلفز ؟
ومع ارتشاف القهوة السَّاخنة الملهمة بدأ أول تجربة له ، أشعل السِّيجار وسحب نفساً عميقاً ، وما إنِ ابتلعه حتَّى شعر بدوار وأحسّ بعلقم في فمه ، ركض إلى مغسلته وتمضمض وغسل فمه عدّة مرّات .
يالله ، ما أشد مرارته ! وما أسوأ مذاقه ! ولكن سأصبر على هذه القذارة عسى أن يكون الأمر فاتحة خير ، أعاد التَّجربة أكثر من مرَّة ، وفي كلِّ مرَّة كان يشعر باختلال توازنه ومرارة في فمه أكثر من سابقتها .
أخيراً قرّر إيقاف التَّجربة على أن يؤدّيها عند اللقاء وبهذا يختصر عذاباته .
قال له المذيع : هل تدخّن ؟
أجابه : طبعاً فشيطان الشِّعر لا يزرني إلَّا مع دخان سيجاري .
أتريد أن تشعل سيجاراً ؟
بالتَّأكيد ، فأنا والسِّيجار تآخينا ، وكأنَّنا توءمان خُلقنا في رحم واحدة . ولن أبدأ الّلقاء قبل أن أرى دخانها يتراقص طرباً بين أصابعي .
بدأ اللقاء والسِّيجار معلنٌ حضوره ، وشاعرنا العظيم يشعر بكلِّ شيء إلَّا بنفسه وبمستوى شعره الهابط .
أراد أن يصنع الغيمة المعتادة بحرفيّة فنّان ، فأخذ نفساً عميقاً من سيجاره وعندما أراد أن يتقيّأ شعراً إذا بالدُّنيا تدور برأسه فلم يعد يشعر أين هو ! لحيظات وأغمي عليه ، وتبدّدت فرصة عمره كضباب سيجاره الَّذي داسته الأقدام .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

ذات صلة

الأصل المجهول

الأصل-المجهول إنها كارثة أهل سوريا ومصيبتهم. عائلة أتت من المجهول لتجعل حياتهم جحيماً. لم تكتفِ عائلة الأسد بسرقة أموال البلاد

تابع القراءة »